ما أساس النظرية العلمية؟ تحليل سؤال

مجزوءة المعرفة : النظرية والتجربة العقلانية العلمية

ما أساس النظرية العلمية؟ تحليل سؤال

ما أساس النظرية العلمية؟

1) مطلب الفهم:

تحديد موضوع السؤال ومجاله وصايغة إشكاله وطرح أسئلته الموجهة للتحليل والمناقشة

يتأطر السؤال المطروح علينا ضمن المجال الإشكالي لمجزوءة المعرفة، إذ يثير موضوعا يرتبط بأسس العلم، فإذا كان العلم يقال بوجه عام على المعرفة وإدراك الشيء على ما هو عليه، فإنه يدل بوجه خاص على كل دراسة ذات موضوع محدد وطريقة ثابتة توصل إلى مجموعة من المبادئ والقوانين، تفسر طبيعة ظواهر معينة أو نظام العلاقات الضرورية بين ظواهر متعددة. وفي الاصطلاح الحديث يقصد بالعلم؛ العلوم الحقة sciences exactes كالرياضيات والفيزياء والفلك وغيرها، باعتبارها النموذج المثالي، لما يسمى معرفة علمية، وهو أيضا المعرفة المنهجية التي يكون لمضمونها قوة برهانية ولنتائجها صلاحية تطبيقية.


ولكن إذا كان العلم يستمد قوته البرهانية من العقل النظري، مثلما يستمد صلاحيته التطبيقية من التجريب الواقعي، فإن التساؤل الذي يطرح نفسه، هو ما طبيعة العلاقة بين العقل والتجربة في بناء النظريات العلمية؟ بمعنى، أيهما يحكم الآخر في تأسيس المعرفة العلمية؟ وهل تقوم المعرفة العلمية على التنظير العقلي أم على الملاحظة التجريبية أم انها مطالبة بالمزاوجة بينهما بشكل جدلي يكمل فيه الواحد الآخر؟

2) مطلب التحليل:

الإشتغال على تحليل (تعريف) مفاهيم السؤال والعلاقة الممكنة بينها والبناء الحجاجي للاجابة المقترحة له

للاجابة عن هذه التساؤلات لابد بداية من تحديد مفهوم النظرية العلمية، ذلك أن مفهوم النظرية كثيرا ما يستعمل بمعاني تدفعنا للتساؤل متى تكون نظرية ما، نظرية علمية فعلا؟


إن مفهوم النظرية، في الاستعمال الشائع كلمة فضفاضة، تتسع ثارة وتضيق ثارة أخرى، حسب المجال الذي تُستعمل فيه، ويتعلق الأمر هنا بمجموعة من الأحكام حول الطبيعة أو المجتمع، يكونها الفرد من خلال ما راكمه من تجارب ومعارف، وخبرات حياتية أو مهنية.


بهذا المعنى لا تكون النظرية سوى وجهة نظر أو رأيا من الآراء. وقد يقع المفاضلة بين هذه الآراء التي تدعي صفة "النظرية"، وهو ما يجعلنا نجدد التساؤل ما هي مميزات النظرية العلمية، في مقابل أخرى نسميها غير علمية أو ناقصة العلمية أو علما زائفا؟


يتحدد مفهوم النظرية فلسفيا، وفق "معجم لالاند الفلسفي، هي "إنشاء تأملي للفكر يربط النتائج بالمبادئ" مثلما اعتبرها عملا نظريا مستقلا عن تطبيقاته، في مقابل الممارسة والتطبيق، و الغاية منها تقديم تفسير كلي لمجموعة من الظواهر، في مقابل التصورات الجزئية.


وقد شكلت النظرية بهذا المعنى أحد أهم خصائص المعرفة العلمية، إذ يكاد لا يخلو مجال علمي ما من نظريات مثلا في علم الفلك نجد نظرية كوبرنيكوس "مركزية الشمس" وفي الفيزياء نجد نظرية إنشتاين حول النسبية....الخ والنظرية علميا هي "نسق من القضايا المتماسكة رياضيا، ذات الطابع الفرضي- الاستنباطي، والتي تتيح تفسير ظواهر مختلفة في مجال معين، مثلما تسمح بوضح تنبوءات حولها على نحو موضوعي".


لكن التساؤل الذي يطرح نفسه هو: هل هذه النظريات أساسها التجربة [التجربة تحكم النظرية] أم أن التجارب في هذه المجالات العلمية محكومة بهذه النظريات [النظرية تحكم التجربة ] ؟


إذا انطلقنا من وجهة نظر شائعة حول العلم، فإن النظريات العلمية يتم استخلاصها بكيفية صارمة من الوقائع التي تمدنا بها الملاحظة والتجريب، ولا مكان في العلم للآراء الشخصية، والأذواق الذاتية، والتأملات الخيالية، فالعلم موضوعي لأنه يستمد حقائقه من الواقع أو لأن الوقع نفسه يثبت حقائقه تجريبيا، وفي هذا السياق يقول الفيلسوف الألماني رايشنباخ : "إن المعرفة العلمية، معرفة معقولة وليست عقلانية، فالمعرفة العلمية يتم الوصل إليها باستخدام مناهج معقولة، لأنها تقتضي استخدام العقل مطبقا على مادة الملاحظة التجريبية."


يذهب الفيلسوف الألماني رايشنباخ إلى حد نقد ورفض كل دعوى ترى أنه بإمكان العقل وحده مستقلا إنتاج معرفة علمية، إذ أن المعرفة العلمية حسب رايشنباخ: معقولة وليست عقلانية. فهو ينفي عنها صفة العقلانية التي تدل بحسبه على ذلك المذهب الفلسفي الذي يعتبر العقل وحده مصدرا للمعرفة المتعلقة بالواقع دونما حاجة إلى الملاحظة والتجربة.


ويرى أن هذا التصور أقرب للتصوف (كشوف وإلهامات إلهية خارقة) منه إلى العلم، (حقائق ووقائع حسية، قابلة للقياس والمعاينة). وينعتها بالمعقولة لأنها تستخدم العقل مطبقا على المادة التجريبية، التي تمدنا بها الملاحظة العلمية. بوصفها مصدرا للحقيقة.


بمعنى أن دور العقل هو اثبات الارتباطات بين مختلف نتائج البحث التجريبي فحسب، مثلما ان نتائجه الرياضية خاضعة للملاحظة التجريبية فإذا لم تؤيدها لزمه التخلي عنها. فالمنهج التجريبي هو الذي يوجه أسئلة للطبيعة ويترك لها مهمة الإجابة عنها "بنعم" أو "لا".


ولعل تجربة الأرانب التي قام بها كلود برنار، تشكل أهم نموذج لهذا الاتجاه فقضية “كل الحيوانات لاحمة“ما كانت لتعتبر صحيحة لولا التجربة المخبرية التي أكدت ذلك فالفرضية العلمية، إذا لم تؤكدها التجربة العلمية، تصبح لاغية حسب هذا التوجه التجريبي. الذي يجعل التجربة والواقع معيارا لقياس علمية كل نظرية تدعي كونها "نظرية علمية".


3) مطلب المناقشة:

مناقشة الاجابة المقترحة بالتحليل من حيث قيمتها وحدودها في ضوء الانفتاح على أطروحات جديدة تفتح أفق النقاش

تأسيسا على ما سبق، فإن التجربة بمعناها العلمي أي القدرة على اختبار النظريات ومعرفة مدى قابليتها للتحقق التجريبي، هو ما يؤسس لعلمية النظريات العلمية.


ويحمل هذا التصور قيمة إيجابية، إذ يميز العلم بما هو مقاربة واقعية، لابد لها من التقيد بالظواهر والمعطيات التجريبية، والامتناع عن كل محاولة تفسيرية تتعدى حدود الظواهر، إيمانا منه بأن العلم لا يستطيع "الخروج" من الواقع، لذلك فهو تصور يقوم على اعتبار المعرفة العلمية معرفة بالواقع، وتقوم على المنهج التجريبي الاستقرائي.


غير أنه تصور محدود، فإذا كانت التجربة هي مبتدأ ومنتهى معرفتنا العلمية بالواقع، فأي دور يبقى للعقل في مجال المعرفة العلمية؟


في هذا الصدد يرى العالم ألبرت اينشتاين، و خلافا لرايشنباخ "أن الفكر الخالص قادر على فهم الواقع"، وبهذا المعنى فإن المعرفة العلمية بالواقع ممكنة بالعقل، وأن دور العقل يتجاوز مجرد تنسيق معطيات التجربة، بل قد يكون فعالية موجهة للتجريب من جهة أو منتجة للمعرفة من جهة أخرى. فالنظريات العلمية لا تستخرج من الواقع والتجارب، لأننا لا يمكن أن نقوم بالتجارب إلا إذا كانت لدينا نظريات أو فرضيات سابقة على التجريب، وهي من إنتاجات العقل.


وهكذا يؤكد أينشتاين أن العقل النظري هو المصدر الخلاق في بناء المعرفة العلمية، اما التجريب فهو تابع للعقل، إذ تقتضي العقلانية العلمية تناسبه مع النظريات العقلية.


ويضرب اينشتاين مثلا لدور العقل، من مجال اختصاصه أي الفيزياء المعاصرة، مبينا أن النسق النظري للفيزياء المعاصرة يتكون من مفاهيم ومبادئ هي إبداعات للعقل الرياضي، ومن ذلك نظريته حول النسبية التي ترتكز على


4) مطلب التركيب :

استخلاص نتائج التحليل والمناقشة وإبداء رأي مدعم حول موضوع النقاش

خلاصة القول، من خلال ما سبق يتين لنا أنه يوجد تصوران حول المعرفة العلمية يستندان لتصورين حول منهجها: الأول: يمكن نعته، بالمنهج - التجريبي الاستقرائي. يغلب عليه الطابع الاستقرائي، لكنه يعتبر الاستنباط عملية مهمة في تنظيم القوانين العلمية بعد صياغتها وقد ساد هذا التصور لدى جل التجريبيين ويمثلهم في هذا السياق أطروحة رايشنباخ. و الثاني: يمكن نعته، بالمنهج الفرضي - الاستنباطي، يغلب عليه الطابع الاستنباطي وربما ترك للاستقراء وظيفة ثانوية مساعدة، وقد ساد هذا التصور لدى جل العقلانيين ويمثلهم في هذا السياق أطروحة اينشتاين


غير أن الإختلاف بين التصورين ليس إختلاف تناقض أو تعارض، بل إختلاف في الأولويات، أي في ترتيب عناصر المعرفة العلمية (العقل والتجربة)، فالبعض يقدم التجربة على العقل (رايشنباخ) والبعض يجعل التجربة تابعة للعقل (اينشتاين)، وللتصورين معا ما يبررهما، ومن ذلك اختلاف المجالات العلمية أو التطور التاريخي التي شهدته، فمثلا التصور التقليدي للفيزياء بما هي معرفة تجريبية، كان تعبيرا عن الواقع الفيزيائي، المحكوم بقوانين التجربة في العصر الكلاسيكي، ما دامت موضوعاته قابلة للتحقق التجريبي، لكن التطور الكبير الذي حصل في مجال الفيزياء المعاصرة خاصة مع الاكتشافات الميكروفيزيائية زعزعة أسس هذا التصور.


فالتجربة لم تعد هنا معيارا لصحة الفرضية، ما دامت الظاهرة العلمية المدروسة غير قابلة للملاحظة المباشرة ولا شروط التجريب متحققة، ولعل في ذلك ما يبرر موقف اينشتاين.


غير أن هذا لا يعني وجود تناقض بين العقل والتجربة في الفيزياء المعاصرة، بل إن المعرفة العلمية كما أكد ذلك الفيلسوف المعاصر غاستون باشلار هي نتاج حوار دائم بين العقل والتجربة، فالفيزياء المعاصرة تتأسس في نظره على يقين مزدوج:


- الأول يتمثل في أن الواقع العلمي ليس واقعا معطى عن طريق الحواس، بل هو واقع مبني بناءا عقليا ورياضيا، وهو ما يعني أن الواقع يوجد في قبضة العقل. - أما اليقين الثاني فيتمثل في القول بأن بناءات العقل وبراهينه لا تتم بمعزل عن الاختبارات والتجارب العلمية.


وهكذا فالعقل العلمي المعاصر مشروط بطبيعة الموضوعات التي يريد معرفتها، فهو ليس عقلا منغلقا ثابتا، بل هو عقل منفتح على الواقع العلمي الجديد الذي يتناوله. بحيث ينبغي حسب باشلار تصور العلاقة بين العقل "الجانب النظري" والتجربة "الجانب التطبيقي والواقعي" بشكل جدلي لا يجعل الواحد منهما متعاليا أو مستقلا عن الآخر، بل إن الواحد منهما شرط لوجود الثاني وبدون تفاضل فيما بينهما، وهو ما يمثل نموذجا للعقلانية التطبيقية في العلم.


-------

ما اساس النظرية العلمية
ما أساس النظرية العلمية وما معيار صدقها
ما هو أساس بناء النظرية العلمية
ما أساس المعرفة العلمية
ما اساس بناء النظرية العلمية
ما النظرية العلمية
على ماذا تتأسس النظرية العلمية
ما اساس العقلانية العلمية