نموذج تطبيقي (علوم الانسانية بين الفهم والتفسير)
الأستاذ عثمان حسيني
مادة الفلسفة
بأي معنى يمكن القول إن الظواهر الطبيعية هي مجال للتفسير والظواهر الانسانية هي مجال للفهم؟
الفهم :
غالبا ما يقف المؤرخون للعلوم الإنسانية عند عتبات القرن التاسع عشر (19م) وبداية القرن العشرين (20م)، حيث إن هذه هي المرحلة التي شهدت تشييد أنساق نظرية، ورسمت الأسس المنهجية والمحتويات المعرفية للعلوم الإنسانية. ولطالما كانت العلوم الطبيعية هي الأكثر تقدما ونجاحا بين سائر العلوم، وذلك بالنظر إلى ما حققته من نتائج كان "المنهج" عاملا أساسيا فيها؛ حيث يرجع العديد من المهتمين بهذا المجال، التفوق الذي حققته العلوم الطبيعية، إلى طبيعة المنهج التفسيري الذي اعتمدته، وهو ما أدى إلى ظهور نزعة "تفسيرية" دعت إلى ضرورة الالتزام بنفس مناهج العلوم الطبيعية، الأمر الذي لم يلاقي استحسان رواد النزعة "التفهمية" بدعوى خصوصية الظاهرة الإنسانية. انطلاقا من هذا التقابل يمكن صياغة مجموعة من التساؤلات الإشكالية : ما هو المنهج الممكن العلوم الانسانيه ؟ هل هو منهج الفهم أهم منهج التفسير ؟ بأي معنى يمكن فهم القول بأن الظواهر الانسانية هي ظاهر تفهم ولا تفسر ؟ ما هي الرهانات الأساسية الإشكالية المنهج في العلوم الإنسانية ؟
التحليل
بالعودة إلى بنية السؤال، وما تحمله هذه البنية من مفاهيم تنطوي على نقاش فلسفی ابستيمولوجي عميق، سنتوقف بداية عند الدلالة الفلسفية والمعرفية لهذه المفاهيم؛ فالظواهر الإنسانية تعني مختلف من ينتجه الإنسان من افعال وسلوكات ذات أبعاد نفسية أو اجتماعية أو ثقافية تاريخية. أما الظواهر الطبيعية فهي مختلف الموضوعات الخارجية التي تخضع للملاحظة، والتي يمكن دراستها كموضوع مستقل بواسطة منهج تجريبي. والفهم أو التفهم هو الاسم الذي يطلق على العملية التي تصبح بها الحياة العقلية أو الروحية معروفة من ثنايا تعبيراتها المعطاة للحواس، ويرتبط التفهم عند "دلتاي " بالتعاطف أو المشاركة الوجدانية، فأن تفهم هو أن تعرف ما يجربه شعوريا شخص ما۔ أما التفسير في الممارسة العلمية فيعني كشف العلاقات السببية الثابتة بين عناصر الظاهرة من خلال قانون عام قابل للتعميم. والملاحظ أن بنية هذه المفاهيم مبنية بالأساس على التقابل بين الظاهرة الطبيعية و الظاهرة الانسانية. ثم بين منهج الفهم الذي يقصد التأويل وإعطاء معنى للسلوك أو الظاهرة، ومنهج التفسير الذي يقصد التعليل السببي والقدرة على التنبؤ.
إن هذا التقابل هو جوهر الإشكال الذي يجعلنا نستحضر أطروحة أولى مفادها "أن الظاهرة الإنسانية هي ظاهرة قابلة للفهم، وليس للتفسير، بحيث لا يمكن استلهام نفس النموذج المنهجي الذي اعتمدته العلوم الطبيعية وذلك بالنظر إلى خصوصية الموضوع الذي تدرسة العلوم الإنسانية والذي يختلف تماما في خصائصه عن الموضوع الذي تدرسة العلوم الطبيعية". إن المبدأ الذي تتأسس عليه هذه الأطروحة، والذي يتبناها مجموعة من المفكرين أبرزهم فيلهام ديلتاي"Wilhelm Dilthey" و ماكس فيبر"Max Weber"، هو القول بأن الطبيعة ليست هي الإنسان، والمنهج المعتمد في دراسة الظواهر الطبيعية لا يصلح لفهم ماهية الظاهرة الإنسانية. إذن، اختلاف الموضوع يستدعي كذلك اختلاف المنهج، فالظاهرة الإنسانية في كافة مستوياتها تتعين بالوعي، لذلك على الباحث أن يستنبط طرائقه، وأن يبدع مناهج تتلاءم مع خصوصية الظاهرة عبر تفهم مباشر يمضي بالباحث إلى الأساس الصلب الذي يقيم عليه تأويلاته للظاهرة الإنسانية . إن السمة التي تميز العلوم الإنسانية هي التفهم وتأويل التعبيرات، والفرد هو الموضوع المباشر للتفهم، ولا يمكن للعلوم الإنسانية الالتزام بنموذج العلوم الطبيعية نظرا لخصوصية وتفرد الموضوع الذي تدرسه. هذا الرفض سيكون مرده إلى خصوصية الموضوع في العلوم الإنسانية."عندما نعتبر أن النموذج الذي يجب إتباعه هو نموذج العلوم الطبيعية، فإننا ننكر الفرق بين الظاهرة الطبيعية والظاهرة الإنسانية" كما يقول دلتاي.
المناقشة
لقد لقيت هذه الأطروحة، التي تجعل الظاهرة الانسانية هي مجال للفهم وليست مجالا للتفسير، قبولا واسعا من لدى المعارضين للنزعة الطبيعية/الوضعانية، نظرا لما تتضمنه من أهمية معرفية وقيمة إنسانية؛ فأما أهميتها المعرفية فتتجلى في كونها واحدة من أبرز الأطروحات التي تطرقت لقضية "المنهج في العلوم الانسانية" وأسهمت في إثراء النقاش الفلسفي حول هذه القضية. وأما قيمتها المعرفية فتتجلى في كونها تؤسس لفصل واضح وصريح بين مجال الممارسة الانسانية ومجال الممارسة الطبيعية، بحيث تجعل من خصائص الظاهرة الانسانية كالوعي والقصدية والإرادة... عوامل أساسية في حسم الجدل الدائر حول إمكانية تشييء وموضعة الظاهر الانسانية. وفي هذه النقطة المتعلقة بالموضعة والتشيء أخذت هذه الأطروحة بعدا "أخلاقيا" لأنها انتصرت إلى خصوصية الذات الإنسانية. ولكن مع ذلك فإن إمكان بناء معرفة علمية دقيقة حول الظاهرة الانسانية، تسمح بالتعميم واستنتاج القوانين، لا يمكن إلا من خلال استلهام نفس النماذج المنهجية التي اعتمدتها العلوم الطبيعية، بالقول بأن الظاهرة الانسانية هي ظاهرة التفسير شأنها في ذلك شأن الظاهرة الطبيعية، وهذا ما يدفعنا إلى الانفتاح على موقف رواد النزعة الطبيعية في العلوم الانسانية، وأبرزهم إميل دوركايم في مجال علم الاجتماع وجون واطسون في مجال علم النفس السلوكي .
يمكن تعريف الظاهرة الاجتماعية عند دوركايم على أنها كل سلوك قابل للملاحظة. ومن أبرز خصائصها أنها تمارس على الفرد قهرا خارجيا، وتكون مستقلة في تجلياتها الفردية. وهذا ما يجعلنا نقول إن الظاهرة الإنسانية هي ظاهرة قابلة للتفسير، بحيث يمكن استلهام النموذج الذي اعتمدته العلوم الطبيعية وهو المنهج التجريبي التفسيري، وتطبيقه في دراسة الظواهر الإنسانية. فالتفسير في الممارسة العلمية يعني كشف العلاقات السببية الثابتة بين عناصر الظاهرة من خلال قانون عام قابل للتعميم، إنه المنهج المعتمد في العلوم الطبيعية، وبفضل دقته وصرامته استطاعت هذه العلوم أن تشيد صرح الموضوعية. وقد كان هذا واحد من أهم العناصر التي أغرت علماء النفس (جون واطسون) وعلماء الاجتماع (إميل دوركايم) بتطبيقه في مجال بحثهم ودراستهم.
إذا كان إميل دوركايم قد اهتم بدراسة وتفسير الظاهرة الاجتماعية، فإن جون واطسون قد اهتم هو الأخر بدراسة وتفسير الظاهرة النفسية في بعدها السلوكي. لقد سعى جون واطسون إلى دراسة السلوك الإنساني بنفس الأسلوب التي تجري عليه البحوث في العمليات الكيميائية أو في سلوك الحيوان (العلوم الطبيعية) دون الخوف من الوعي. و"مصطلحات الشعور أو اللاشعور أو الحالات الوجدانية أو العواطف والانفعالات التي ليس لها مكان في أي مجال علمي موضوعي" كما يقول جون واطسون (فصل الذات عن الموضوع). هذا الفصل المنهجي بين الذات والموضوع هو ما ساهم في تحقيق الموضوعية التي ميزت العلوم الطبيعية، وهو ما دفع رواد هذا التوجه إلى القول بامكانية تفسير الظاهرة الإنسانية من خلال علاقات سببية. الظاهرة الإنسانية هي شيء خارجي و مستقل عن إدراكنا، وهي ما تقع عليه حواسنا، ولها من العلامات من يمكن الاتفاق على أسبابه بالأساليب المنهجية التي تكفل تحقيق الموضوعية العلمية.
التركيب
نخلص إذن، من خلال هذا التحليل والمناقشة، إلى التأكيد مرة أخرى على أن قضايا العلوم الانسانية هي من أشد القضايا تعقيدا وإثارة للنقاش في مجال المعرفة والعلوم، ويزداد هذا النقاش حدة وتعقيدا عندما يتعلق الأمر بالمنهج الذي جعلنا نميز بين اتجاهين، الاتجاه الطبيعي (أوغست كونت / إميل دوركايم / جون واطسون) الذي تبني منهج التفسير، والذي يرى في العلوم الطبيعية النموذج الأوحد الذي يجب احتذاؤه لكي يحظى البحث في الظواهر الإنسانية بلقب العلم. الاتجاه المضاد له (لوسيان غولدمان"Lucien Goldmann" / فيلهام دلتاي / ماكس فيبر) الذي تبني منهج الفهم أو التفهم حيث رفض الالتزام بنموذج العلوم الطبيعية نظرا ل "خصوصية" الموضوع الذي تهتم به العلوم الإنسانية إن الرهان الأساسي لهذا الإشكال هو الكشف عن دينامية المعرفة العلمية بشكل عام والمعرفة الإنسانية بشكل خاص، والوقوف عند الصعوبات التي على كل علم معرفة تخطيها إذا ما أرادت أن تحوز لقب العلم.