هل تتأسس المعرفة العلمية على العقل وحده؟ تحليل سؤال فلسفي

هل تتأسس المعرفة العلمية على العقل وحده؟ 
هل تتأسس المعرفة العلمية على العقل وحده؟
هل المعرفة العلمية تتأسس على العقل وحده؟

هل المعرفة العلمية تتأسس على التجربة فقط ؟

تشكل المعرفة بعدا هاما من أبعاد الوجود الإنساني من أحل فهم وتفسير مختلف نواحي الحياة وظواهرها المختلفة , فهي العملية التي تتجه إليها الذات العارفة نحوموضوع معرفتها؛وهي بذلك انتقال من الذات المدركة نحوالموضوع المدرك، وتتميز المعرفة باحتمالات الخطأ والصواب،التقدم والتراجع، الحركة والجمود.لقد شكلت الطبيعة كموضوع لغزا بالنسبة للإنسان وخطرا يتهدد حياته على الدوام؛ فسعى إلى فهمها بما تيسر له من وسائل، ولا يمكن إنكار ما قدمته الحضارات السابقة سلم التدرج المعرفي، لكن يبقى وميض المعرفة منبثقا منذ عصر النهضة حيث ركزت على النظرية والتجربة كدعامات لبناء معرفة دقيقة وحقائق يقينية لا يرقى إليها الشك، كما توهمت. والسؤال قيد التحليل يندرج في إطار مفهومي النظرية والتجربة على اعتبار أنهما يتعايشان جنبا إلى جنب داخل الممارسة العلمية وتطرح الاشكال التالى :

هل تشكل التجربة المصدر الوحيد لكل تقدم معرفي ؟ أليس للعقل أي دور في انتاج هذه المعرفة ؟ سؤال كهذا يخفي أسئلة أخرى لها دورها وقابليتها يتناول موضوعنا. فماذا نعني بالتجربة ؟ هل المقصود بها التجربة العلمية ؟ وهل هذا معناه أن التجربة الحسية لم تقدم شيئا للمعرفة ؟ وما العمل حين تكون شروط التجريب منعدم ؟ أليس للعقل مكانته القصوى في انتاج النظريات وتفسير الظواهر الطبيعية ؟ باختصار شديد ما هو دور كل من النظرية والتجربة في تشكيل المعرفة ؟

وقبل المضي في محاولة الإجابة عن السؤال، لابد أولا من تحليل ألفاظه ومفاهيمه؛ فهل حرف استفهام يطلب منه التصديق والجواب بنعم أو لا ؛ مع إمكانية التفكيرفي إمكانية ثالثة تجمع الإمكانيتين السابقتين، والمعرفة العلمية؛ يتكون من زوج مفاهيمي؛ الأول معرفة، وهي مجموعة من المعاني والمفاهيم والمعتقدات والأحكام والتصورات الفكرية التي تتكون لدى الإنسان نتيجة محاولاته المتكررة لفهم الظواهر والأشياء المحبطة به، والثاني علم، ويقصد به " منهج يسعى للوصول إلى مجموعة مترابطة من الحقائق الثابتة المصنفة والقوانين العامة ". ومفهوم المعرفة العلمية يقصد به نمط خاص من التفكير كونها تعتبر فرعا ناجحا من فروع المعرفة، وهي مشروطة وفق ما تقدم بالمبادرة الذاتية ومحكومة بالقوانين الفيزيائية والقيم الأخلاقية على حد سواء. والمفهوم الأخير هو مفهوم التجربة؛ حيث سنعمد إلى التمييز الذي قدمه ألكسندر كويري في كتابه دراسات غاليلية حيث التجربة ترتبط بما هو خام وحسي؛ ما هو مرتبط بالخبرة وبمهارة إنسان يتقن حرفة ماء، أو على العموم كل الناس لديهم خبرة؛ أما التجريب أو التجربة العلمية فالمقصود بها بناء منظم للمعرفة يتم وفق خطوات عملية ومراحل دقيقة؛ تتم داخل مختبر وباستعمال وسائل وأدوات من أجل الكشف عن العلل لتي تقف وراء الظواهر الطبيعة بغية التحكم والسيطرة عليها، وبالتالي فهي مساءلة منهجية للطبيعة بشروط ومبادئ منهجية واضحة. التجربة العلمية بهذا المعنى هي مصدر المعرفة، وبينهما علاقة ترابط إذ لا يمكننا أن نتحدث عن المعرفة دون مرتكز التجربة؛ كما أن التجربة العلمية لا يمكنها إلا أن تساهم في تقدم العلم ونهضته.

إن التأكيد على أهمية التجربة في المعرفة له ما يبرره، حيث الانطلاقة الأولى للتجربة على يد فرنسيس بيكون وجون ستيوارت مل وغاليلي.وغيرهم، ممن تعاملوا مع الطبيعة كموضوع يدرس، كشيء خارجي له قوانين تتحكم فيه، لقد حولت الطريقة الجديدة الطبيعة إلى أعداد وكم. وأصبح كل شيء خارج عن ذات الإنسان قابلا للترييض والقياس، لقد تحولت الطبيعة إلى رموز وأعداد.

شكلت التجربة إذن منبع كل جهد علمي؛ وحين نقول التجربة فإننا لا نقصد بها التجربة الحسية البسيطة؛ صحيح أن هذه تمدنا بمعارف وخبرات ومهارات عن الواقع، وتنقش في عقولنا وتملؤها بالأحوال المختلفة والمتغيرات التي يعيشها الإنسان كما ذهبت إلى ذلك المدرسة التجريبية مع جون لوك ودفيد هيوم، باعتبار أن العقل صفحة بيضاء لا يوجد فيه إلا ما تمدنا به الحواس. إلا أن هذا النوع من التجربة كما يشير إلى ذلك باشلار يشكل عائقا أمام تقدم المعرفة العلمية؛ ولنا في فكرة دوران الشمس حول الأرض التي كانت سائدة لوقت طويل في أوروبا، والتي ناهضت حقيقة غاليلي العلمية النموذج الصارخ لما يمكن أن تشكله الخبرة الحسية من خطورة على نهضة العلم.

التجربة العلمية أو التجريب يقطع مع التجربة الحسية ويتناقض معها ، لكنها مع ذلك ليست الشكل الوحيد في تفسير الظواهرالطبيعية ، فقد آله ديكارت العقل، وجعله مرجعا للمعرفة من خلال عملية الحدس والإستنباط، فهو أعدل الأشياء قسمة بين الناس، وقد صرح أيضا بذلك ديكارت في مقالته ما التنوير ؟ فقال لتكن لديك الجرأة على استعمال عقلك الخاص.

فما هي قيمة التجربة العلمية إذن، وأين يتجلى إسهامها وتأثيرها في الحياة العملية والعلمية و ما هي حدودها ؟ متى تصبح التجربة عاجزة عن التفسير والنفاذ إلى عمق الأسباب الكامنة وراء الوقائع الطبيعية ؟ وما العمل في هذه الحالة ؟

أشرنا سابقا إلى أن التجربة العلمية شكلت أساس المعرفة العلمية، من خلال عملية البناء المنهجي، فقد حدد كلود برنار خطوات هذا المنهج في قوله : " الحادث يوحي بالفكرة، والفكرة تقود إلى التجربة وتوجهها، والفكرة تحكم بدورها على التجربة" وبهذا المعنى فالملاحظة هي الخطوة الأولى في عمل العالم الذي يبدأ بمراقبة الظاهرة المدروسة، حيث يعتمد في البداية على حواسه وقدراته العضوية؛ ثم ينتقل إلى الملاحظة المعتمدة على الآلات والوسائل العلمية حتى تصبح أكثر ملاءمة لروح البحث العلمي. كما ينبغي على الملاحظ أن يأخذ بعين الاعتبار تداخل وتعقد الظواهر وتفاعلها حتى لا يصدر أحكاما متسرعة وتبسيطية. وأن يضع بين رغباته وعواطفه ومعتقداته من جهة؛وبين الظاهرة المدروسة من جهة أخرى مسافة كافية تصبغ على عمله طابع الموضوعية، تليها الفرضية وهي فكرة مؤقتة أومجموعة أفكار لحظة يقترحها العالم انطلاقا من ملاحظاته من أجل فهم وتفسير الظواهر التي يدرسها، وإن كان يتقن فن الاستماع في مرحلة الملاحظة؛ فعليه في هذه المرحلة أن يجيد فن الحوار، فهو ينتظر من الظاهرة المدروسة أن تنسجم مع الفرضيات التي اقترحها حتى تكتسب هذه الأخيرة صلاحيتها وصدقها. ومن مواصفات الفرضية أن تكون نابعة من الموضوع المدروس، أي أن يكون لها سند واقعي، وليس من تصورات وخيالات يتم نسجها حوله، وكذلك قابليتها للتحقق التجريبي. وأن تكون عناصرها منسجمة فيما بينها وليست متناقضة.


بعد الملاحظة والفرضية ينتقل العالم إلى مرحلة التجريب من أجل التأكد من صدق أو كذب ما اقترحه من فرضيات؛ كما يعتبر الكثير من الباحثين بأن التجريب هوبمثابة ملاحظة ثانية لكنها عملية وملموسة. حيث ينتقل الباحث من مجرد ملاحظ إلى عنصر فعال في العملية يساهم في صنع الظاهرة ميدانيا؛ أي داخل المختبر،باحثا في نفس الوقت عن الإجابات التي توفرها الظاهرة المدروسة عن فرضياته. إن مرحلة التجريب تقتضي التسليم ببعض المفاهيم الأساسية والتى تعتبر عماد التفكير العلمي وهي : الحتمية والتكرار وعزل الظاهرة وتغيير الشروط الموضوعية والخلق العلمي والتعميم، ثم يقوم العالم باستخلاص النتائج التي يقوم بقراءتها وتأويلها والخروج بخلاصات تكون على شكل علاقات تعكس نتائج عمله وهو ما يسمى بالقانون.

لكن القول أن التجربة العلمية أو التجريب لها الفضل وحدها في رقي الإنسان فيه الكثير من التجنى على مصادر المعرفة الأخرى. لقد ساهمت العقلانية العلمية وخاصة المعاصرة في احداث ثورة في مجال العلوم كالفيزياء والفلك وغيرهما، فهذه العلوم قدمت الكثير للإنسانية، إذ تناولت ظواهر عديدة بشكل دقيق، مستندة على العقل الرياضي، كيف ذلك ؟


لقد حولت الهندسات اللاأوقليدية منطق التفكير، وذلك بظهور هندسة ريمان ولوباتشوفسكي؛ وما صاحبهما من ظهور الأعداد التخيلية؛ الدوال المنفصلة،المنحنيات التي لا مماس لها، إلى جانب نقد مسلمة التوازي عند أوقليدس، وظهور نظرية المجموعات مع جورج كانتور، كل هذا أسهم في بروز حركة نقد داخلية في الرياضيات وصياغة المنهج الأكسيومي؛ القائم على الإنطلاق من موضوعات؛ يتفق عليها علماء عصر معين، يضعونها وضعا، ثم يبنون من خلال هذه الموضوعات معارف جديدة، مستثمرين في ذلك المنهج الإستنباطي.

لقد قام العلماء بصياغة مفاهيم مجردة، هذا التحول الحذري أعاد الإعتبار لمفهوم الفرضية العقلية؛ بحيث لم تعد هذه مجرد تفسير ينتظر من التجربة الحسم في صحته،بل أصبح لصيقا بالنظرية؛ هذا ما دفع الفيزيائي ألبير إينشتاين إلى مساءلة الإتجاه الاختباري بقوله " إن كانت التجربة في بداية معرفتنا للواقع وفي نهايتها فأي دوريتبقى للعقل في العلم ؟ يجيب عن هذا التساؤل الإستنكاري بقوله " إن العقل يمنح النسق الفيزيائي بنيته؛ أما معطيات التجربة وعلاقتها المتبادلة فيجب أن تطابق النظرية " هذه القولة توضح أن التجربة يمكن أن ترشدنا في اختبار المفاهيم الرياضية التي سنستعملها إلا أنها لا يمكن أن تكون هي المنبع الذي تصدرعنه تلك المفاهيم، وإن بقيت حقا معيار المنفعة الوحيد بالنسبة للفيزياء على الرغم من الطابع الرياضي لبنائها، فإن المبدأ الخلاق الحقيقي يوحد في الرياضيات؛ وبهذا القول يكون إينشتاين قد تجاوز تلك النظرة التجريبية الضيقة للعلم كما تم اعتمادها عند التجربيين والوضعيين. على هذا الأساس هناك مسافة بين النظرية العلمية والواقع؛وهكذا عارض اينشتاين النزعة التجريبية، مساهما في بناء عقلانية معاصرة؛ فهو على عكس التجربيين لا يدعوا إلى مطابقة النظرية للواقع، بل يؤكد على مطابقة الواقع للنظرية. لقد أصبح العقل مع الفيزياء المعاصرة فعالا ومبدعا وليس تابعا للواقع التجربي،لذلك يقول اينشتاين " إن المبدأ الخلاق في العلم لا يوجد في التجربة، بل في العقل الرياضي "


وفي اتجاه توفيقي يؤكد العالم الفرنسي غاستون باشلار على أهمية الحوار الجدلي بين العقل والتجربة في بناء المعرفة العلمية. فالفيزياء المعاصرة تتأسس في نظره على يقين مزدوج : الأول يتمثل في أن الواقع العلمي ليس واقعا معطى عن طريق الحواس، بل هو واقع مبني بناء عقليا ورياضياء وهو ما يعني أن الواقع في قبضة العقل.

أما اليقين الثاني فيتمثل في القول بأن الاختبارية الساذجة التى اعتقدت ان التجربة هي مصدر بناء النظرية العلمية، كما انتقد النزعة العقلانية المغلقة التى تصورت أن العقل وحده قادر على بناء المعرفة بشكل منعزل عن الواقع, وعلى العكس من ذلك؛ دعا باشلار إلى ضرورة قيام حوار بين العقل والتجربة. وسمى باشلار عقلانيته بالعقلانية التطبيقية.

يتضح إذن من مناقشتنا لهذا السؤال، أن التجربة والنظرية في علاقة تفاعل متبادلةـ كل يأخذ مكانته ودوره المرسوم له في تاريخ العلم.

كخلاصة عامة يتضح مدى التطور الذي عرفه العلم مع اللجوء إلى التجربة والنظرية، وبالرغم من الصراع المرير بينهما من خلال الاتجاهات الفلسفية الكبرى، بين من يثق في التجربة بشكل أعمى، ومن يجعل من العقل الوصي الوحيد على المعرفة، إلا أنهما يتكاملان ويتجانسان في تقليم تفسيرات للظواهر الطبيعية.

وفي الأخير يبدوا لنا أن التجربة العلمية لها من القوة ما يمكنها من تقديم تفسيرات دقيقة للظواهر الطبيعية؛ وهي أقرب إلينا في الواقع، على العقل الذي ينبني على افتراضات من خلال كيانات تجريدية؛ رغم صدقه المنطقي من خلال ترابطاته الأكسيومية. لكن التجربة تبقى هي مبنع كل جهد علمي.